لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
و البنان جمع بنانة، و البنانة هي العقلة في الأصبع( السلامية) ، و المراد بالبنان هنا هو أطراف الأصابع ، و هذه الأطراف صغيرة دقيقة ،فلماذا اختارها الله ، و تحدّث عن خلقها و تسويتها ، كدليل أنه قادر على أن يعيد خلق الإنسان بعد موته؟و لماذا لم يختر القرآن عضوا آخر ضخما من أعضاء الجسم لحديث عنه في هذا المجال؟
هل العقلة في الأصبع هي السلامية ؟
حسب ابن منظور:
البنان: أطراف الأصابع من اليدين والرجلين، البنانة: الإصبع كلها، وتقال للعقدة من الإصبع
فوجدته هو الآخر لم يحدد معنى. فالبنان تارة هي الإصبع و تارة هي رؤوس الأصابع و هي العقدة من الإصبع تارة أخرى
لكنه لم يذكر السلامية و لا العقلة اللتين يستعملها شيوخنا اليوم للتمييح و التمييع و ليّ عنق الحقيقة
و للتحديد ؛ فالأصابع تتكون من ثلاث سلاميات إلا الإبهام التي تتكون من سلاميتين . والسلاميات هي تلك العظام الدقيقة التي تتكون منها الأنامل.و للسلاميات ؛ كما لجميع العظام المتحركة ؛ مفاصل تتمحور حولها، و مفاصل السلاميات هي العقل
أما الحكمة من ضرب المثل بالبنان فهي عظمة اليد، هذه الآلة التي تميز الإنسان عن البهيمة. فتجعل منه كاتبا مقتدرا، و صانعا ماهرا ،و مبدعا خلاقا . كما أنه يغسل بها و يأكل ،و أكثر من ذاك و ذاك فهو يعبّر بها ، و يحكم، و يعدل، و يحارب . فلولاها لما صار التبر ذهبا،ولا الحديد سيوفا؛ و لولاها ما سادت حضارات ، و لا عمّ عمران ، و لا حدث تطوّر. و لولاها ما تكلّم و لا عبّر الأبكم و لا الفنان.
و بما أن هذه المعجزة أصبحت اليوم في متناول الإنسان الذي أصبح بواسطة علمه و تقدمه ينسخ الأيادي و الأنامل و يصنعها صنعا ، تجاوز شيخنا بسحره اللغوي العظام الدقيقة إلى الجلد؛ فعنى بالبنان التعاريجَ و الانحناءات و التموّجات التي تظهر على جلد الأصابع و تختلف من شخص لآخر.
يا للتهريج اللغوي..
يقول شيخنا مضيفا إلى ما سبق
السرّ في ذلك أن في تسوية الأصابع دقة إلهية عجيبة، لأن أصابع كلّ إنسان تختلف عن أصابع غيره في خطوطها و تعاريجها ، فلا تجد اثنين من الناس تتطابق فيهما تعاريج أصابعهما أو خطوطها ، لأن كلّ إصبع مكسوة بخطوط دقيقة بارزة ذات أشكال و تعاريج و انحناءات متعددة لا تتطابق عند شخص و آخر . و قد عرف العلماء أخيرا أن هذه الخطوط لا تتغير أبدا ،بل تبقى على أشكالها و اتجاهاتها طول الحياة…
جميل…
و لكن ما معنى التسوية؟
يقول سيدي الشرباصي
أن في تسوية الأصابع دقة إلهية عجيبة
و يعني بها أن في خلق الأصابع دقة إلهية عجيبة
فهل التسوية تعني الخلق؟
و هل يستعمل القرآن هذه الكلمة بمعنى الخلق؟؟؟
فلنر جميعا
ففي قاموس المحيط نجد أنّ
سَوَّى يُسَوِّي سَوِّ تَسْوِيَةً [ سوي]:- الشيءَ: قَوَّمَه وعَدَّلَه وجَعَلَه سَويًّا الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ .- بينهما: ساوى؛ على الوالِدِ أن يسوِّي بين أبناءه في الرعايةِ والعطية.- الطَّعامَ ونحوَه: أَنْضَجَه؛ سوَّت الشّمس الفاكهةَ/ سُوِّيَتْ عليه الأرض، وبه، أي هَلَك فيها يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ .
أمّا في معجم الغني فإن
سَوَّى – [س و ي]. (ف: ربا. متع. م. بظرف). سَوَّيْتُ، أُسَوِّي، سَوِّ، مص. تَسْوِيَةٌ. 1.”سَوَّى مَشاكِلَهُ” : وَجَدَ لَها حَلاًّ نِهائِيّاً. “كانَتْ مُهِمَّتُهُ أَنْ يُسَوِّيَ الخِلافَ بَيْنَهُما”. 2.”سَوَّى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ” : سَاوَى بَيْنَهُمَا وعَدَّلَ. 3.”وَصَلَتِ الجَرَّافاتُ لِتُسَوِّيَ الأَرْضَ” : لِتَدُكَّها وَتَجْعَلَهَا مُسْتَوِيَةً. 4.”سَوَّيْتُ الْمُعْوَجَّ فَما اسْتَوَى” : أَقَمْتُهُ فَما اسْتَقامَ. 5.”سَوَّى النَّحَّاتُ التِّمْثَالَ” : عَدَّلَهُ، قَوَّمَهُ وَجَعَلَهُ سَوِيّاً. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَّلَكَ (قرآن). 6.”سَوَّى عَمَلَهُ” : أَتَمَّهُ.
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ روحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ (قرآن). 7.”سَوَّى الطَّعَامَ” : أَنْضَجَهُ.
فلا نجد في المعجمين أن الخلق معنى لمصدر التسوية
أما في القرآن فنجد مصدر التسوية مثلا ؛ في الانفطار( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ 8) ؛ يأتي بعد فعل الخلق فهل هو تكرار له أم أنه يعني التقويم و الإتمام ؟؟. و في سورة البقرة نقرأ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم 29 )
فهل الاستواء إلى السماء يحدث قبل خلقها أم بعده ؟ و هل يمكن الاستواء لشيء لم يخلق بعد؟ كلا..لقد خلق السماوات ثم سوّاهنّ سبعا أي قوّمهنّ و عدّلهن و أتهمّهن سبع سماوات . و في نفس الصدد نجده في النازعات يؤكد نفس المعنى في قوله: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28).فها هو ذا يقول بأنه يبني السماء أولا ثم في الأخير يسوّيها. إذا فالتسوية ليست هي الخلق ، بل تأتي بعده . و هي هنا كذلك إنما تعني التقويم و التعديل و الإتمام. و نجد مصدر التسوية كذلك في السجدة حيث يقول: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (9) ..فيتضح لنا مرة أخرى أن مرحلة الخلق سبقت مرحلة التسوية ، و أن الخلق ليس مرادفا للتسوية و إنما يعني مرة أخرى هنا التعديل و التقويم و الإتمام .أمّا في سورة الشمس فيرد فعل سوّى تسوية في موطنين ، فنجده في الآية (7) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ؛ يعني التسوية و الإتمام. بينما نجده في الآية 14 فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ،يتخذ معاني أخرى.فإذا اعتبرنا الضمير (ها ) يعود على قبيلة ثمود فإن معنى سوّى يكون هو دكّ عمرانهم و جعل بنيانهم مستويا مع الأرض ، و إذا كان الضمير (ها) يعود على الأرض التي تسكنها ثمود فإن سوّى سيصبح معناه سطّّح أي أفرغ أرضهم من كل مرتفع أو منخفض و جعلها سطحا و احدا. و إذا كان الضمير( ها ) يعود على الدمدمة باعتبار أن دمدم عليهم ربّهم تعني شملهم عذابه و عمّمه بينهم؛ فإن فعل سوّى يصبح معناه ساوى و عادّل بينهم في العذاب.
و هكذا نجد أن القرآن لم يستعمل أبدا مصدر التسوية بمعنى الخلق و إنما نجده بالعكس يحترم جميع معاني هذا المصطلح اللغوية و المنطقية.
و على هذا الأساس ، و بافتراض أنّ البنان هو أطراف الأصابع فإن ـ نسوّي بنانه ـ ليست تعني بتاتا نخلق بصماته
و حتى نؤكد ما نقول نلجأ إلى كتب التفسير للوقوف على مدى صدقية أو كذب افتراضاتنا.
فنستهل هذا الباب بالإحاطة بسورة القيامة أوّلا التي تحتلّ الرتبة 75 في ترتيب السور، فهي مكّيّة ، و تتكوّن من أربعين آية . سمّيت بهذا الاسم لذكرها بالخصوص للقيامة و أهوالها ، و الساعة و شدائدها ، ولذكرها حالة الإنسان عند الاحتضار وما يلقاه الكافر في الآخرة من المصاعب والمتاعب . تعالج السورة موضوع ” البعث والجزاء ” الذي هو أحد أركان الإيمان ، وتركّز بوجه خاص على القيامة . نزلت في عدي بن ربيعة، حليف بني زهرة، ختن الأخنس بن شريق الثقفي، وكان النبي يقول: اللهم اكفني جاري السوء، يعني عدياً والأخنس. وذلك “أن عدي بن ربيعة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد حدثني عن القيامة متى تكون وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره محمد فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن بك أو يجمع الله العظام؟ فأنزل الله عز و جل “أيحسب الإنسان ـ تفسير البغوي ـ . و الظاهر أنّ عدي بن ربيعة هذا قد أهمله التاريخ العربي ، و نسته المراجع إلا في هذا الموطن من القرآن ؛ عكس الأخنس بن شريق الثقفي الذي أسلم و أصبح الصحابي الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن غيرة بن عوف بن ثقيف الثقفي أبو ثعلبة حليف بني زهرة اسمه أبي ،ويقولون أنه لقّب الأخنس لأنه رجع ببني زهرة من بدر لما جاءهم الخبر أن أبا سفيان نجا بالعير فقيل خنس الأخنس ببني زهرة فسمي بذلك . ثم أسلم الأخنس فكان من المؤلفة وشهد حنينا ومات في أول خلافة عمر.
فهذا الأخنس نجد أنه كان سببا في نزول العديد من الآيات مثل ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام) و(ويل لكل همزة لمزة) و ( ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم إلى قوله تعالى : زنيم ) و كذلك (أَلا إِنَّهُم يَثنونَ صُدورَهُم) .فلأنه أسلم فقد كشف التاريخ و كتب التفسير عنه ، و أجمعوا على أنه كان قبل إسلامه من المعارضين الكبار لدعوة محمد . أما عدي بن ربيعة فلم يرد على بالي ذكر له إلا في الجزء الرابع من الإصابة في تمييز الصحابة حيث نجد : قال بن عبد البر ذكروا في مسلمة الفتح عدي بن ربيعة وأنا أظن أنه ابن عم أبي العاص بن الربيع قلت وابنه علي له صحبة وسيأتي..و الظاهر من سياق الآية أن عدي بن ربيعة كان أكثر محاجة للرسول و أكثر جرأة عليه ، و أن مجاورته للنبي قد ساعدته على التطاول عليه و الجهر أمامه بمعارضته و رفع الصوت و اليدين تعبيرا عن الاحتجاج في حضرته . و نغتنم هذه الفرصة هنا للتساؤل حول مصير هذا الفذّ الشجاع..
و حتى نوضح فكرتنا أكثر ، لِنعرّج على الطبري في تفسيره لآيتنا فنجده يقول
قوله: أيَحْسَبُ الإنْسانُ أَلّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ يقول تعالى ذكره: أيظنّ ابن آدم أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرّقها, بلى قادرين على أعظم من ذلك, أن نسوي بنانه, وهي أصابع يديه ورجليه, فنجعلها شيئا واحدا كخفّ البعير, أو حافر الحمار, فكان لا يأخذ ما يأكل إلا بفيه كسائر البهائم, ولكنه فرق أصابع يديه يأخذ بها, ويتناول ويقبض إذا شاء ويبسط, فحسن خلقه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
و نجد أن ابن كثير يذهب في تفسيره إلى نفس المعنى إذ يقول
وقوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} أي يوم القيامة أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} وقال سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس: أن نجعله خفاً أو حافراً, وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وابن جرير, ووجهه ابن جرير بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا, والظاهر من الآية أن قوله تعالى: {قادرين} حال من قوله تعالى: {نجمع} أي أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه ؟ بل سنجمعها قادرين على أن نسوي بنانه أي قدرتنا صالحة لجمعها, ولو شئنا بعثناه أزيد مما كان فنجعل بنانه وهي أطراف أصابعه مستوية, وهذا معنى قول ابن قتيبة والزجاج
إذا من خلال هذين التفسيرين يتضح أن نسوّي بنانه ليست تعني خلق البصمات و إنما تسوية الأصابع
بحيث تصبح كخفّ البعير أو حافر الحمار.
و فيه كناية على عدي بن ربيعة الذي كما قلنا يرفع صوته و يديه أمام الرسول و يقول كيف لله أن يجمع هذه العظام إن اندثرت و تفرقت و تلفت؟؟؟
و لكن و قبل أن نسترسل في توضيح فكرتنا ، دعنا نكمل جولتنا في كتب التفسير
و لْنعرج على القرطبي لنجد عنده
قوله تعالى: “أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه” فنعيدها خلقا جديدا بعد أن صارت رفاتا. قال الزجاج: أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة: ليجمعن العظام للبعث، فهذا جواب القسم. وقال النحاس: جواب القسم محذوف أي لتبعثن؛ ودل عليه قوله تعالى: “أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه” للإحياء والبعث. والإنسان هنا الكافر المكذب للبعث. الآية نزلت في عدي بن ربيعة قال لـ محمد: حدثني عن يوم القيامة متى تكون، وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره محمد بذلك؛ فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أأمن به، أو يجمع الله العظام؟ ! ولهذا كان محمد رسول الاسلام يقول: (اللهم اكفني جاري السوء عدي بن ربيعة، والأخنس بن شريق). وقيل: نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت. وذكر العظام والمراد نفسه كلها؛ لأن العظام قالب الخلق. “بلى” وقف حسن ثم تبتدئ “قادرين”. قال سيبويه: على معنى نجمعها قادرين، “فقادرين” حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرناه من التقدير. وقيل: المعنى بل نقدر قادرين. قال الفراء: “قادرين” نصب على الخروج من “نجمع” أي نقدر ونقوى “قادرين” على أكثر من ذلك. وقال أيضا: يصلح نصبه على التكرير أي “بلى” فليحسبنا قادرين. وقيل: المضمر (كنا) أي كنا قادرين في الابتداء، وقد اعترف به المشركون. وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميقع “بلى قادرون” بتأويل نحن قادرون. “على أن نسوي بنانه” البنان عند العرب: الأصابع، واحدها بنانة؛ قال النابغة:
بمخضب رخص كأن بنانه عنم يكاد من اللطافة يعقد
وقال عنترة:
وأن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندواني
فنبّه بالبنان على بقية الأعضاء. وأيضا فإنها أصغر العظام، فخصها بالذكر لذلك.
قال القتبي والزجاج: وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام؛ فقال الله تعالى: بلى قادرين على أن نعيد السلاميات على صغرها، ونؤلف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر. وقال ابن عباس وعامة المفسرين: المعنى “على أن نسوي بنانه” أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير، أو كحافر الحمار، أو كظلف الخنزير، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا، ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء. وكان الحسن يقول: جعل لك أصابع فأنت تبسطهن، وتقبضهن بهن، ولو شاء الله لجمعهن فلم تتق الأرض إلا بكفيك. وقيل: أي نقدر أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها؛ وهو كقوله تعالى: “وما نحن بمسبوقين. على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون
و ننتقل إلى البغوي فنجد كذلك
أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه “، نزلت في عدي بن ربيعة، حليف بني زهرة، ختن الأخنس بن شريق الثقفي، وكان النبي محمد يقول: اللهم اكفني جاري السوء، يعني عدياً والأخنس. وذلك “أن عدي بن ربيعة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد حدثني عن القيامة متى تكون وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن بك أو يجمع الله العظام؟ فأنزل الله عز وجل: “أيحسب الإنسان”” يعني الكافر ” ألن نجمع عظامه ” بعد التفرق والبلى فنحييه. قيل: ذكر العظام وأراد نفسه لأن العظام قالب النفس لا يستوي الخلق إلا باستوائها. وقيل: هو خارج على قول المنكر أو يجمع الله العظام كقوله: “قال من يحيي العظام وهي رميم” (يس- 78).
4- “بلى قادرين”، أي نقدر، استقبال صرف إلى الحال، قال الفراء “قادرين” نصب على الخروج من نجمع، كما تقول في الكلام أتحسب أن لا نقوى عليك؟ بلى قادرين على أقوى منك، يريد: بل قادرين على أكثر من ذا. مجاز الآية: بلى نقدر على جمع عظامه وعلى ما هو أعظم من ذلك، وهو “على أن نسوي بنانه” أنامله، فنجعل/ أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخف البعير وحافر الحمار، فلا يرتفق بها بالقبض والبسط والأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وغيرها. هذا قول أكثر المفسرين. وقال الزجاج وابن قتيبة: معناه: ظن الكافر أن لا نقدر على جمع عظامه، بلى نقدر على أن نعيد السلاميات على صغرها، فنؤلف بينها حتى نسوي البنان، فمن قدر على جمع صغار العظام فهو على جمع كبارها أقدر“
هكذا نجد أن التفاسير كلها تتحدث عن تسوية الأصابع كخفّ البعير او حافر الحمار. و يضيف القرطبي و البغوي أن التسوية تعني إعادة تركيب السلاميات و التأليف بينها على أن السلاميات هنا ليست البصمات و إنما هي العظام الدقيقة التي تتكون منها الأصابع كما ذكرت أعلاه
و عليه و حتى تتضح الفكرة و ينجلي الغموض فلنعرض الآية من جديد
لا أقسم بيوم القيامة؛ و لا أقسم بالنفس اللوامة ؛ أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه؟؟ بلى؛ قادرين على أن نسوّي بنانه.
و نضيف إليها
بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة
هكذا يكمل المعنى
فالإنسان هو عدي بن ربيعة الذي يفجُر في حضرة النبي(أمامه) كلّما صادفه ،فيرفع صوته ، و تجحض عيناه، و يهشّ في وجه النبي أمام الجموع من الجيران و المارة براحتي يديه‘ و هو يقول له معنفا و مستهزئا متى سيحل يوم قيامتك المزعوم ؟؟ و كيف سيعيد ربك تركيب العظام المندثرة هنا و هناك؟
فجاء محمّد بهذه الآيات ليس على سبيل الإعجاز و إنما أتى بها تخويفا و ترهيبا و وعيدا لكل من يفجر في حضرة النبي و يرفع يديه في وجهه
فكان معنى الآية الحقيقي هو
قل للذي يرفع يديه فجورا في وجهك مكذّبا و مستهزئا بيوم القيامة ،لا داعي أن أقسم له لا بعظمة ذلك اليوم(يوم القيامة) ، و لا بعظمة ذلك الضمير الذي يوخزه و يقضّ مضجعه (النفس اللوامة)؛ و لكن ليكن على بقين أني لست قادرا على جمع عظامه و إعادة تركيبها فقط ،و إنما أنا قادر على أكثرمن ذلك ، قادر على تسوية أصابع تلك اليد ،التي ترفع في وجه النبي، حتّى تغدو كخف البعير أو حافر الحمار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق